فصل: قول القرطبي بعد ذكر دعوى ابن العربي الإجماع المذكور

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن **


وقال القرطبي بعد ذكر دعوى ابن العربي الإجماع المذكور

قلت‏:‏ وهذا لا يصح، وقد ذكر هو وغيره الخلاف والنزاع فلم يصح ما ادعوه من الإجماع‏.‏

وأما معارضته بمخالفة عائشة له فهي أيضًا ظاهرة السقوط؛ لأن العبرة بروايتها لا برأيها كما هو التحقيق عند الجمهور، وقد بينّاه في سورة ‏"‏البقرة‏"‏ في الكلام على حديث طاوس المتقدم في الطلاق‏.‏

وأما معارضته بإجماع فقهاء الأمصار على أنه ليس بأصل يعتبر في صلاة المسافر خلف المقيم، فجوابه أن فقهاء الأمصار لم يجمعوا على ذلك، فقد ذهب جماعة من العلماء إلى أن المسافر لا يصح اقتداؤه بالمقيم لمخالفتهما في العدد، والنية، واحتجوا بحديث‏:‏ ‏"‏لا تختلفوا على إمامكم‏"‏ وممن ذهب إلى ذلك الشعبي وطاوس وداود الظاهري وغيرهم‏.‏

وأما معارضته بمخالفة بعض الصحابة لها كابن عباس، فجوابه ما قدمناه آنفًا عن ابن كثير من أن صلاة الحضر لما زيد فيها واستقر ذلك صح أن يقال‏:‏ إن فرض صلاة الحضر أربع كما قال ابن عباس‏.‏

وأما تضعيفه بالاضطراب فهو ظاهر السقوط؛ لأنه ليس فيه اضطراب أصلاً، ومعنى فرض اللَّه وفرض رسول اللَّه واحد؛ لأن اللَّه هو الشارع والرسول هو المبيّن، فإذا قيل فرض رسول اللَّه كذا فالمراد أنه مبلغ ذلك عن اللَّه فلا ينافي أن اللَّه هو الذي فرض ذلك كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا‏}‏، ونظيره حديث‏:‏ ‏"‏إن إبراهيم حرّم مكة ‏"‏ مع حديث‏:‏ ‏"‏ إن مكة حرّمها اللَّه ‏"‏ الحديث‏.‏

وأما رده بأن المغرب والصبح لم يزد فيهما فهو ظاهر السقوط أيضًا؛ لأن المراد بالحديث الصلوات التي تقصر خاصة كما هو ظاهر، مع أن بعض الروايات عن عائشة عند ابن خزيمة، وابن حبان، والبيهقي‏.‏ قالت‏:‏ ‏"‏فرضت صلاة السفر والحضر ركعتين ركعتين، فلما قدم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم المدينة واطمأن زِيدَ في صلاة الحضر ركعتان ركعتان، وتركت صلاة الفجر لطول القراءة وصلاة المغرب؛ لأنها وتر النهار‏"‏ وعند أحمد من طريق ابن كيسان في حديث عائشة المذكور ‏"‏إلا المغرب فإنها كانت ثلاثًا‏"‏‏.‏

وهذه الروايات تبيّن أن المراد خصوص الصلوات التي تقصر، وأما رده بأنه غير مرفوع فهو ظاهر السقوط؛ لأنه مما لا مجال فيه للرأي فله حكم المرفوع،

ولو سلمنا أن عائشة لم تحضر فرض الصلاة فإنها يمكن أن تكون سمعت ذلك من النبيّ صلى الله عليه وسلم في زمنها معه، ولو فرضنا أنها لم تسمعه منه فهو مرسل صحابي ومراسيل الصحابة لها حكم الوصل‏.‏

وأما قول إمام الحرمين إنه لو ثبت لنقل متواترًا فهو ظاهر السقوط؛ لأن مثل هذا لا يرد بعدم التواتر، فإذا عرفت مما تقدم أن صلاة السفر فرضت ركعتين كما صح به الحديث عن عائشة وابن عباس وعمر ـ رضي اللَّه عنهم فاعلم أن ابن كثير بعد أن ساق الحديث عن عمر، وابن عباس، وعائشة قال ما نصه‏:‏

وإذا كان كذلك فيكون المراد بقوله‏:‏ ‏{‏فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ‏}‏، أن تقصروا من الصلاة قصر الكيفية كما في صلاة الخوف؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ‏}‏ الآية‏.‏ ولهذا قال بعدها‏:‏ ‏{‏وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ‏}‏‏.‏ فبيّن المقصود من القصر ها هنا، وذكر صفته وكيفيته‏.‏اهـ محل الغرض منه بلفظه وهو واضح جدًا فيما ذكرنا وهو اختيار ابن جرير‏.‏

وعلى هذا القول، فالآية في صلاة الخوف وقصر الصلاة في السفر عليه مأخوذ من السنة لا من القرءان، وفي معنى الآية الكريمة أقوال أُخر‏:‏

أحدها‏:‏ أن معنى ‏{‏وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ‏}‏، الاقتصار على ركعة واحدة في صلاة الخوف كما قدمنا آنفًا من حديث ابن عباس عند مسلم، والنسائي، وأبي داود، وابن ماجه، وقدمنا أنه رواه ابن ماجه عن طاوس‏.‏

وقد روى نحوه أبو داود، والنسائي من حديث حذيفة قال‏:‏ ‏"‏فصلّى بهؤلاء ركعة، وهؤلاء ركعة ولم يقضوا‏"‏ ورواه النسائي أيضًا من حديث زيد بن ثابت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم‏.‏

وممن قال بالاقتصار في الخوف على ركعة واحدة، الثوري وإسحاق ومن تبعهما‏.‏ وروي عن أحمد بن حنبل وعطاء، وجابر، والحسن، ومجاهد، والحكم، وقتادة، وحماد، والضحاك‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ يصلّى الصبح في الخوف ركعة، وإليه ذهب ابن حزم، ويحكى عن محمد بن نصر المروزي وبالاقتصار على ركعة واحدة في الخوف‏.‏

قال أبو هريرة‏:‏ وأبو موسى الأشعري وغير واحد من التابعين ومنهم من قيده بشدة الخوف‏.‏

وعلى هذا القول، فالقصر في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ‏}‏، قصر كمية‏.‏

وقال جماعة‏:‏ إن المراد بالقصر في قوله‏:‏ ‏{‏وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ‏}‏، هو قصر الصلاة في السفر‏.‏ قالوا‏:‏ ولا مفهوم مخالفة للشرط الذي هو قوله‏:‏ ‏{‏إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ‏}‏؛ لأنه خرج مخرج الغالب حال نزول هذه الآية، فإن في مبدأ الإسلام بعد الهجرة كان غالب أسفارهم مخوفة‏.‏

وقد تقرر في الأصول، أن من الموانع لاعتبار مفهوم المخالفة خروج المنطوق مخرج الغالب، ولذا لم يعتبر الجمهور مفهوم المخالفة في قوله‏:‏ ‏{‏وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُم‏}‏؛ لجريانه على الغالب‏.‏

قال في ‏"‏مراقي السعود‏"‏‏:‏ في ذكر موانع اعتبار مفهوم المخالفة‏:‏

أو جهل الحكم أو النطق انجلب للسؤل أو جرى على الذي غلب

واستدل من قال‏:‏ إن المراد بالآية قصر الرباعية في السفر بما أخرجه مسلم في ‏"‏ صحيحه ‏"‏، والإمام أحمد، وأصحاب السنن الأربعة، عن يعلى بن أمية قال‏:‏ قلت لعمر بن الخطاب‏:‏ ‏{‏فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ‏}‏، فقد أمن الناس، قال‏:‏ عجبت ما عجبت منه، فسألت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال‏:‏ ‏"‏صدقة تصدق اللَّه بها عليكم فاقبلوا صدقته‏"‏‏.‏ فهذا الحديث الثابت في ‏"‏صحيح مسلم‏"‏، وغيره يدل على أن يعلى بن أمية، وعمر بن الخطاب رضي اللَّه عنهما، كانا يعتقدان أن معنى الآية قصر الرباعية في السفر، وأن النبيّ صلى الله عليه وسلم، أقر عمر على فهمه لذلك، وهو دليل قوي، ولكنه معارض بما تقدم عن عمر من أنه قال‏:‏ ‏"‏صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر على لسان محمد صلى الله عليه وسلم‏"‏ ويؤيده حديث عائشة، وحديث ابن عباس المتقدمان‏.‏

وظاهر الآيات المتقدمة الدالة على أن المراد بقوله أن تقصروا من الصلاة قصر الكيفية في صلاة الخوف، كما قدمنا، واللَّه تعالى أعلم، وهيئات صلاة الخوف كثيرة، فإن العدو تارة يكون إلى جهة القبلة، وتارة إلى غيرها، والصلاة قد تكون رباعية، وقد تكون ثلاثية، وقد تكون ثنائية، ثم تارة يصلون جماعة، وتارة يلتحم القتال، فلا يقدرون على الجماعة بل يصلون فرادى رجالاً، وركبانًا مستقبلي القبلة، وغير مستقبليها، وكل هيئات صلاة الخوف الواردة في الصحيح جائزة، وهيئاتها، وكيفياتها مفصلة في كتب الحديث والفروع، وسنذكر ما ذهب إليه الأئمة الأربعة منها إن شاء اللَّه‏.‏

أما مالك بن أنس، فالصورة التي أخذ بها منها هي أن الطائفة الأولى تصلّي مع الإمام ركعة في الثنائية، وركعتين في الرباعية والثلاثية، ثم تتم باقي الصلاة، وهو اثنتان في الرباعية، وواحدة في الثنائية والثلاثية، ثم يسلمون ويقفون وجاه العدو، وتأتي الطائفة الأخرى فيجدون الإمام قائمًا ينتظرهم، وهو مخير في قيامه بين القراءة، والدعاء، والسكوت إن كانت ثنائية، وبين الدعاء والسكوت إن كانت رباعية أو ثلاثية، وقيل‏:‏ ينتظرهم في الرباعية والثلاثية جالسًا فيصلي بهم باقي الصلاة، وهو ركعة في الثنائية، والثلاثية، وركعتان في الرباعية، ثم يسلم ويقضون ما فاتهم بعد سلامه، وهو ركعة في الثنائية، وركعتان في الرباعية والثلاثية‏.‏ فتحصل أن هذه الصورة، أنه يصلّي بالطائفة الأولى ركعة أو اثنتين، ثم يتمون لأنفسهم ويسلمون، ويقفون في وجه العدو، ثم تأتي الأخرى فيصلي بهم الباقي، ويسلم ويتمون لأنفسهم‏.‏

قال ابن يونس في هذه الصورة التي ذكرنا‏:‏ وحديث القاسم أشبه بالقرءان، وإلى الأخذ به رجع مالك‏.‏ اهـ‏.‏

قال مقيده عفا اللَّه عنه مراد ابن يونس، أن الحديث الذي رواه مالك في ‏"‏الموطأ‏"‏، عن يحيىا بن سعيد، عن القاسم بن محمد بن أبي بكر، عن صالح بن خوات، عن سهل بن أبي حثمة، بالكيفية التي ذكرنا، هو الذي رجح إليه مالك، ورجحه أخيرًا على ما رواه، أعني مالكًا، عن يزيد بن رومان، عن صالح بن خوات، عمّن صلّى مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يوم ذات الرقاع صلاة الخوف‏.‏ الحديث، والفرق بين رواية القاسم بن محمد، وبين رواية يزيد بن رومان، أن رواية يزيد بن رومان فيها أن النبيّ صلى الله عليه وسلم صلّى بالطائفة الأخرى الركعة التي بقيت من صلاته، ثم ثبت جالسًا وأتموا لأنفسهم، ثم سلم بهم، وقد عرفت أن رواية القاسم عند مالك في ‏"‏الموطأ‏"‏، أنه يصلّي بالطائفة الأخرى الركعة الباقية ثم يسلم فيتمون بعد سلامه لأنفسهم‏.‏

قال ابن عبد البرّ مشيرًا إلى الكيفية التي ذكرنا، وهي رواية القاسم بن محمد، عند مالك، وهذا الذي رجع إليه مالك بعد أن قال بحديث يزيد بن رومان، وإنما اختاره ورجع إليه للقياس على سائر الصلوات‏:‏ إن الإمام لا ينتظر المأموم، وإن المأموم إنما يقضي بعد سلام الإمام، وحديث القاسم هذا الذي أخرجه مالك في ‏(‏الموطأ‏)‏ موقوف على سهل، إلا أن له حكم الرفع؛ لأنه لا مجال للرأي فيه والتحقيق أنه مرسل صحابي؛ لأن سهلاً كان صغيرًا في زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وجزم الطبري، وابن حبان، وابن السكن، وغيرهم بأن النبيّ صلى الله عليه وسلم توفِيِّ وسهل المذكور ابن ثمان سنين، وزعم ابن حزم، أنه لم يرد عن أحد من السلف القول بالكيفية التي ذكرنا أنها رجع إليها مالك، ورواها في ‏"‏موطئه‏"‏ عن القاسم بن محمد، هذا هو حاصل مذهب مالك في كيفية صلاة الخوف‏.‏ قال أولاً‏:‏ بأن الإمام يصلي بالطائفة الأولى، ثم تتم لأنفسها، ثم تسلم، ثم يصلّي بقية الصلاة بالطائفة الأخرى وينتظرها حتى تتم، ثم يسلم بها ورجع إلى أن الإمام يسلم إذا صلى بقية صلاته مع الطائفة الأخرى، ولا ينتظرهم حتى يسلم بهم بل يتمون لأنفسهم بعد سلامه، كما بينّا‏.‏

والظاهر أن المبهم في رواية يزيد بن رومان في قول صالح بن خوات، عمّن صلّى مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، الحديث، أنه أبوه خوات بن جبير الصحابي، رضي اللَّه عنه، لا سهل بن أبي حثمة، كما قاله بعضهم‏.‏

قال الحافظ في ‏"‏الفتح‏"‏‏:‏ ولكن الراجح أنه أبوه خوات بن جبير؛ لأن أبا أويس، روى هذا الحديث، عن يزيد بن رومان شيخ مالك فيه فقال‏:‏ عن صالح بن خوات، عن أبيه، أخرجه ابن منده في ‏"‏معرفة الصحابة‏"‏ من طريقه، وكذلك أخرجه البيهقي، من طريق عبيد اللَّه بن عمر، عن القاسم بن محمد، عن صالح بن خوات، عن أبيه، وجزم النووي في ‏"‏تهذيبه‏"‏ بأنه أبوه خوات، وقال‏:‏ إنه محقق من رواية مسلم وغيره، قلت‏:‏ وسبقه إلى ذلك الغزالي، فقال إن صلاة ذات الرقاع في رواية خوات بن جبير‏.‏اهـ محل الغرض منه بلفظه‏.‏

ولم يفرّق المالكية بين كون العدو إلى جهة القبلة وبين كونه إلى غيرها، وأما إذا اشتدّ الخوف والتحم القتال، ولم يمكن لأحد منهم ترك القتال فإنهم يصلونها رجالاً وركبانًا إبماء مستقبلي القبلة وغير مستقبليها، كما نصّ عليه تعالى بقوله‏:‏ ‏{‏فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا‏}‏‏.‏

وأما الشافعي رحمه اللَّه فإنه اختار من هيئات صلاة الخوف أربعًا‏:‏

إحداها‏:‏ هي التي ذكرنا آنفًا عند اشتداد الخوف والتحام القتال، حتى لا يمكن لأحد منهم ترك القتال، فإنهم يصلون كما ذكرنارجالاً وركبانًا إلخ الهيئة‏.‏

الثانية‏:‏ هي التي صلاها صلى الله عليه وسلم ببطن نخل، وهي أن يصلّي بالطائفة الأولى صلاتهم كاملة ثم يسلمون جميعهم‏:‏ الإمام والمأمومون ثم تأتي الطائفة الأخرى التي كانت في وجه العدو فيصلّي بهم مرة أخرى هي لهم فريضة وله نافلة، وصلاة بطن نخله هذه رواها جابر وأبو بكرة، فأما حديث جابر فرواه مسلم أنه صلّى مع النبيّ صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف، فصلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بإحدى الطائفتين ركعتين ثم صلّى بالطائفة الأخرى ركعتين، فصلّى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أربع ركعات وصلّى بكل طائفة ركعتين‏.‏

وذكره البخاري مختصرًا ورواه الشافعي والنسائي وابن خزيمة من طريق الحسن عن جابر وفيه أنه سلم من الركعتين أولاً ثم صلّى ركعتين بالطائفة الأخرى‏.‏

وأما حديث أبي بكرة فرواه أبو داود والنسائي وابن حبان والحاكم والدارقطني، وفي رواية بعضهم أنها الظهر، وفي رواية بعضهم أنها المغرب، وإعلال ابن القطان لحديث أبي بكرة هذا بأنه أسلم بعد وقوع صلاة الخوف بمدة، مردود بأنا لو سلمنا أنه لم يحضر صلاة الخوف فحديثه مرسل صحابي ومراسيل الصحابة لهم حكم الوصل كما هو معلوم، واعلم أن حديث أبي بكرة ليس فيه أن ذلك كان ببطن نخل‏.‏

وقد استدل الشافعية بصلاة بطن نخل هذه على جواز صلاة المفترض خلف المتنفل‏.‏

واعلم أن هذه الكيفية التي ذكرنا أنها هي كيفية صلاة بطن نخل كما ذكره النووي وابن حجر وغيرهما، قد دلّ بعض الروايات عند مسلم والبخاري وغيرهما، على أنهاهي صلاة ذات الرقاع، وجزم ابن حجر بأنهما صلاتان، واللَّه تعالى أعلم‏.‏

وقد دلّ بعض الروايات على أن صلاة نخل هي صلاة عسفان، واللَّه تعالى أعلم‏.‏

الهيئة الثالثة‏:‏ من الهيئات التي اختارها الشافعي‏:‏ صلاة عسفان، وكيفيتها كما قال جابر رضي اللَّه عنه قال‏:‏ ‏"‏ شهدت مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف، فصفنا صفين، صف خلف رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم والعدوّ بيننا وبين القبلة، فكبّر النبيّ صلى الله عليه وسلم وكبّرنا جميعًا ثم ركع وركعنا جميعًا، ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا جميعًا، ثم انحذر بالسجود والصفّ الذي يليه، وقام الصف المؤخّر في نحر العدو، فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم السجود وقام الصفّ الذي يليه انحدر الصفّ المؤخر بالسجود وقاموا، ثم تقدم الصف المؤخر وتأخر الصف المتقدم، ثم ركع النبيّ صلى الله عليه وسلم وركعنا جميعًا، ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا جميعًا، ثم انحدر بالسجود والصف الذي يليه الذي كان مؤخرًا في الركعة الأولى، وقام الصف المؤخر في نحور العدو فلما قضى النبيّ صلى الله عليه وسلم السجود والصف الذي يليه، انحدر الصف المؤخر بالسجود فسجدوا، ثم سلم النبيّ صلى الله عليه وسلم وسلمنا جميعًا ‏"‏، هذا لفظ مسلم في ‏"‏ صحيحه ‏"‏، وأخرج النسائي والبيهقي من رواية ابن عباس ورواه أبو داود النسائي وابن حبان والحاكم من رواية أبي عياش الزرقي واسمه زيد بن الصامت وهو صحابي‏.‏

وقول ابن حجر في ‏"‏ التقريب ‏"‏ في الكنى‏:‏ إنه تابعي، الظاهر أنه سهو منه رحمه اللَّه، وإنما قلنا‏:‏ إن هذه الكيفية من الكيفيات التي اختارها الشافعي مع أنها مخالفة للصورة التي صحت عنه في صلاة عسفان؛ لأنه أوصى على العمل بالحديث إذا صح، وأنه مذهبه، والصورة التي صحت عن الشافعي رحمه اللَّه في ‏"‏ مختصر المزني ‏"‏ ‏"‏ والأم ‏"‏ أنه قال‏:‏ صلّى بهم الإمام وركع وسجد بهم جميعًا إلا صفًا يليه إو بعض صف ينتظرون العدو، فإذا قاموا بعد السحدتين سجد الصف الذي حرسهم، فإذا ركع ركع بهم جميعًا وإذا سجد سجد معه الذين حرسوا أولاً إلا صفًا أو بعض صف يحرسه منهم، فإذا سجدوا سجدتين وجلسوا سجد الذين حرسوا ثم يتشهدون ثم سلّم بهم جميعًا معًا، وهذا نحو صلاة النبيّ صلى الله عليه وسلم بعسفان، قال‏:‏ ولو تأخر الصف الذي حرس إلى الصف الثاني وتقدم الثاني فحرس فلا بأس‏.‏ انتهى بواسطة نقل النووي‏.‏

والظاهر أن الشافعي رحمه اللَّه يرى أن الصورتين أعني‏:‏ التي ذكرنا في حديث جابر وابن عباس وأبي عياش الزرقي والتي نقلناها عن الشافعي كلتاهما جائزة واتباع ما ثبت في الصحيح أحق من غيره، وصلاة عسفان المذكورة صلاة العصر‏.‏

وقد جاء في بعض الروايات عند أبي داود وغيره أن مثل صلاة عسفان التي ذكرنا صلاّها أيضًا صلى الله عليه وسلم يوم بني سليم‏.‏

الرابعة‏:‏ من الهيئات التي اختارها الشافعي رحمه اللَّه هي‏:‏ صلاة ذات الرقاع، والكيفية التي اختارها الشافعي منها هي التي قدمنا رواية مالك لها عن يزيد بن رومان، وهي أن يصلّي بالطائفة الأولى ركعة ثم يفارقونه ويتمّون لأنفسهم ويسلّمون، ويذهبون إلى وجوه العدو وهو قائم في الثانية يطيل القراءة حتى يأتي الآخرون فيصلي بهم الركعة الباقية ويجلس ينتظرهم حتى يصلوا ركعتهم الباقية، ثم يسلّم بهم، وهذه الكيفية قد قدمنا أن مالكًا رواها عن يزيد بن رومان عن صالح بن خوات بن جبير عمّن صلّى مع النبيّ صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف يوم ذات الرقاع، وأخرجها الشيخان من طريقه، فقد رواه البخاري عن قتيبة عن مالك ومسلم عن يحيى بن يحيى عن مالك نحو ما ذكرنا، وقد قدمنا أن مالكًا قال بهذه الكيفية أولاً ثم رجع عنها إلى أن الإمام يسلم ولا ينتظر إتمام الطائفة الثانية صلاتهم حتى يسلّم بهم‏.‏ وصلاة ذات الرقاع لها كيفية أخرى غير هذه التي اختيار الشافعي وهي ثابتة في ‏"‏ الصحيحين ‏"‏ من حديث ابن عمر قال‏:‏ صلّى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف بإحدى الطائفتين ركعة، والطائفة الأخرى مواجهة العدو، ثم انصرفوا وقاموا في مقام أصحابهم، مقبلين على العدو، وجاء أولئك ثم صلّى بهم النبيّ صلى الله عليه وسلم ركعة، ثم سلم النبيّ صلى الله عليه وسلم، ثم قضى هؤلاء ركعة وهؤلاء ركعة‏.‏

وهذا لفظ مسلم ولفظ البخاري بمعناه، ولم تختلف الطرق عن ابن عمر في هذا، وظاهره أنهم أتموا لأنفسهم في حالة واحدة ويحتمل أنهم أتموا على التعاقب، وهوالراجح من حيث المعنى؛ لأن إتمامهم في حالة واحدة يستلزم تضييع الحراسة المطلوبة وإفراد الإمام وحده، ويرجّحه ما رواه أبو داود من حديث ابن مسعود ولفظه‏:‏ ثم سلم فقام هؤلاء أي‏:‏ الطائفة الثانية فصلّوا لأنفسهم ركعة، ثم سلّموا ثم ذهبوا ورجع أولئك إلى مقامهم فصلوا لأنفسهم ركعة ثم سلّموا‏.‏ وظاهره أن الطائفة الثانية والت بين ركعتيها ثم أتمت الطائفة الأولى بعدها، واعلم أن ما ذكره الرافعي وغيره من كتب الفقه من أن في حديث ابن عمر هذا أن الطائفة الثانية تأخرت وجاءت الطائفة الأولى فأتموا ركعة ثم تأخروا وعادت الطائفة الثانية فأتموا مخالف للروايات الثابتة في ‏"‏ الصحيحين ‏"‏ وغيرهما‏.‏

وقال ابن حجر في ‏(‏الفتح‏)‏‏:‏ إنه لم يقف عليه في شىء من الطرق، وأما الإمام أحمد رحمه اللَّه فإن جميع أنواع صلاة الخوف الثابتة عنه صلى الله عليه وسلم جائزة عنده، والمختار منها عنده صلاة ذات الرقاع التي قدمنا اختيار الشافعي لها أيضًا، وهي أن يصلي الإمام بالطائفة الأولى ركعة ثم يتمّون لأنفسهم ويسلّمون ويذهبون إلى وجوه العدو؛ ثم تأتي الطائفة الأخرى فيصلّي بهم الركعة الأخرى ثم يصلّون ركعة فإذا أتموها وتشهدوا سلّم بهم‏.‏

وأما الإمام أبو حنيفة رحمه اللَّه فالمختار منها عنده، أن الإمام يصلّي بالطائفة الأولى ركعة إن كان مسافرًا، أو كانت صبحًا مثلاً، واثنتين إن كان مقيمًا، ثم تذهب هذه الطائفة الأولى إلى وجوه العدو، ثم تجىء الطائفة الأخرى ويصلّي بهم ما بقي من الصلاة ويسلّم، وتذهب هذه الطائفة الأخيرة إلى وجوه العدو، وتجىء الطائفة الأولى، وتتم بقيّة صلاتها بلا قراءة؛ لأنهم لاحقون، ثم يذهبون إلى وجوه العدو، وتجىء الطائفة الأخرى فيتمّون بقية صلاتهم بقراءة؛ لأنهم مسبوقون، واحتجّوا لهذه الكيفية بحديث ابن عمر المتقدم وقد قدمنا أن هذه الكيفية ليست في رواية ‏"‏ الصحيحين ‏"‏ وغيرهما لحديث ابن عمر‏.‏

وقد قدمنا أيضًا من حديث ابن مسعود عند أبي داود أن الطائفة الأخرى لما صلّوا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم الركعة الأخرى أتمّوا لأنفسهم فوالوا بين الركعتين، ثم ذهبوا إلى وجوه العدو فجاءت الطائفة الأولى فصلّوا ركعتهم الباقية، هذا هو حاصل المذاهب الأربعة في صلاة الخوف‏.‏

وقال النووي في ‏"‏ شرح المهذب ‏"‏ صلاة ذات الرقاع أفضل من صلاة بطن نخل على أصح الوجهين؛ لأنها أعدل بين الطائفتين؛ ولأنها صحيحة بالإجماع وتلك صلاة مفترض خلف متنفل وفيها خلاف للعلماء‏.‏والثاني، وهو قول أبي إسحاق صلاة بطن نخل أفضل لتحصل كل طائفة فضيلة جماعة تامة‏.‏ واعلم أن الإمام في الحضرية يصلّي بكل واحدة من الطائفتين ركعتين، وفي السفرية ركعة ركعة، ويصلّى في المغرب بالأولى ركعتين عند الأكثر‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ يصلّي بالأولى في المغرب ركعة، واعلم أن التحقيق أن غزوة ذات الرقاع بعد خيبر، وإن جزم جماعة كثيرة من المؤرخين بأن غزوة ذات الرقاع قبل خيبر، والدليل على ذلك الحديث الصحيح أن قدوم أبي موسى الأشعري على النبيّ صلى الله عليه وسلم حين افتتح خيبر مع الحديث الصحيح أن أبا موسى شهد غزوة ذات الرقاع‏.‏

قال البخاري في ‏"‏ صحيحه ‏"‏‏:‏ حدثني محمد بن العلاء، حدثنا أبو سامة، حدثنا بريد بن عبد اللَّه عن أبي بردة؛ عن أبي موسى رضي اللَّه عنه قال‏:‏ ‏"‏ بلغنا مخرج النبيّ صلى الله عليه وسلم ونحن باليمن، فخرجنا مهاجرين إليه أنا وأخوان لي أنا أصغرهم، أحدهما أبو بردة، والآخر أبو رهم، إما قال بضع، وإما قال في ثلاثة وخمسين، أو اثنين وخمسين رجلاً من قومي، فركبنا سفينة فألقتنا سفينتنا إلى النجاشي بالحبشة، فوافقنا جعفر بن أبي طالب فأقمنا معه حتى قدمنا جميعًا، فوافقنا النبيّ صلى الله عليه وسلم حين افتتح خيبر ‏"‏ الحديث‏.‏‏.‏‏.‏، وفيه التصريح بأن قدوم أبي موسى حين افتتاح خيبر‏.‏

وقد قال البخاري أيضًا‏:‏ حدّثنا محمد بن العلاء، حدّثنا أبو أسامة عن بريد بن أبي بردة عن أبي بريدة عن أبي موسى رضي اللَّه عنه قال‏:‏ ‏"‏ خرجنا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في غزاة ونحن في ستة نفر بيننا بعير نعتقبه فنقبت أقدامنا ونقبت قدماي وسقطت أظفاري، وكنا نلف على أرجلنا الخرق فسميت غزوة ذات الرقاع ‏"‏ الحديث‏.‏ فهذان الحديثان الصحيحان فيهما الدلالة الواضحة على تأخر ذات الرقاع عن خيبر، وقد قال البخاري رحمه اللَّه‏:‏ باب غزوة ذات الرقاع وهي غزوة محارب خصفة من بني ثعلبة من غطفان فنزل نخلاً وهي بعد خيبر؛ لأن أبا موسى جاء بعد خيبر الخ‏.‏ وإنما بيّنا هذا ليعلم به أنه لا حجة في عدم صلاة الخوف في غزوة الخندق على انهامشروعة في الحضر بدعوى أن ذات الرقاع قبل الخندق وأن صلاة الخوف كانت مشروعة قبل غزوة الأحزاب التي هي غزوة الخندق، وأنه صلى الله عليه وسلم ما تركها مع أنهم شغلوه وأصحابه عن صلاة الظهر والعصر إلى الليل إلا لأنها لم تشرع في الحضر، بل التحقيق أن صلاة الخوف ما شرعت إلا بعد الخندق وأشار أحمد البدوي الشنقيطي في نظمه للمغازي إلى غزوة ذات الرقاع بقوله‏:‏

ثم إلى محارب وثعلبة ذات الرقاع ناهزوا المضاربة

ولم يكن حرب وغورث جرى بها له الذي لدعثور جرى

مع النبي وعلى المعتمد جرت لواحد بلا تعدد

والناظم هذا يرى أنها قبل خيبر تبعًا لابن سيد الناس ومن وافقه، ومما اختلف فيه العلماء من كيفيات صلاة الخوف صلاة ذي قرد، وهي أن تصلّى كل واحدة مع الإمام ركعة واحدة وتقتصر عليها، وقد قدمنا ذلك من حديث ابن عباس عند مسلم، وأبي داود، والنسائي، وابن ماجه‏.‏ ومن حديث حذيفة عند أبي داود، والنسائي، وهذه الكيفية هي التي صلاّها حذيفة بن اليمان لما قال سعيد بن العاص بطبرستان‏:‏ أيّكم صلّى صلاة الخوف مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ‏؟‏ فقال حذيفة‏:‏ أنا، وصلّى بهم مثل ما ذكرنا كما أخرجه النسائي عنه، وعن زيد بن ثابت ورواه أبو داود عن ثعلبة بن زهدم وهو الذي رواه من طريقه النسائي، ولفظ أبي داود عن ثعلبة بن زهدم، قال‏:‏ كنا مع سعيد بن العاص بطبرستان فقام فقال‏:‏ أيكم صلّى مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف ‏؟‏ فقال حذيفة‏:‏ أنا‏.‏ فصلى بهؤلاء ركعة وبهؤلاء ركعة ولم يقضوا‏.‏

قال أبو داود‏:‏ وكذا رواه عبيد اللَّه بن عبد اللَّه ومجاهد عن ابن عباس عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعبد اللَّه بن شقيق عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، ويزيد الفقير وأبو موسى‏.‏

قال أبو داود‏:‏ رجل من التابعين ليس بالأشعري جميعًا عن جابر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقد قال بعضهم عن شعبة في حديث يزيد الفقير إنهم قضوا ركعة أخرى، وكذلك رواه سماك الحنفي عن ابن عمر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكذلك رواه زيد بن ثابت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال‏:‏ فكانت للقوم ركعة ركعة، وللنبيّ صلى الله عليه وسلم ركعتين‏.‏اهـ منه بلفظه‏.‏

وقال القرطبي في ‏"‏ تفسيره ‏"‏ ما نصّه‏:‏ قال السدي إذا صليت في السفر ركعتين فهو تمام، والقصر لا يحلّ إلاّ أن تخاف، فهذه الآية مبيحة أن تصلي كل طائفة ركعة لا تزيد عليها شيئًا؛ ويكون للإمام ركعتان، وروي نحوه عن ابن عمر وجابر بن عبد اللَّه وكعب وفعله حذيفة بطبرستان، وقد سأله الأمير سعيد بن العاص عن ذلك، وروي عن ابن عباس أن النبيّ صلى الله عليه وسلم صلّى كذلك في غزوة ذي قرد ركعة لكل طائفة ولم يقضوا، وروي عن جابر بن عبد اللَّه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم صلّى بأصحابه كذلك يوم غزوة محارب خصفة وبني ثعلبة، وروى أبو هريرة أن النبيّ صلى الله عليه وسلم صلّى كذلك بين ضجنان وعسفان، وبكون كل من الطائفتين تقتصر على ركعة واحدة‏.‏

قال أيضًا إسحاق‏:‏ وروي عن الإمام أحمد وجمهور العلماء على أن الاقتصار على ركعة واحدة في الخوف لا يجوز، وأجابوا عن الأحاديث الواردة بذلك من وجهين‏:‏

الأول‏:‏ أن المراد بقول الصحابة الذين رووا ذلك ولم يقضوا أنهم بعدما أمنوا وزال الخوف، لم يقضوا تلك الصلاة التي صلّوها في حالة الخوف وتكون فيه فائدة أن الخائف إذا أمن لا يقضى ما صلّى على تلك الهيئة المخالفة لهيئة صلاة الأمن ولهذا القول له وجه من النظر‏.‏

الوجه الثاني‏:‏ أن قولهم في الحديث ولم يقضوا، أي في علم من روى ذلك؛ لأنه قد روى أنهم قضوا ركعة في تلك الصلاة بعينها، ورواية من زاد أولى قاله القرطبي وابن عبد البر، ويدلّ له ما تقدم من رواية يزيد الفقير عن جابر من طريق شعبة عند أبي داود، أنهم قضوا ركعة أخرى والمثبت مقدم على النافي ويؤيد هذه الرواية كثرة الروايات الصحيحة بعدم الاقتصار على واحدة في كيفيات صلاة الخوف، واللَّه تعالى أعلم‏.‏

وحاصل ما تقدم بيانه من كيفيات صلاة الخوف خمس، وهي صلاة المسايفة الثابتة في صريح القرءان، وصلاة بطن نخل، وصلاة عسفان، وصلاة ذات الرقاع، وصلاة ذي قرد‏.‏ وقد أشار الشيخ أحمد البدوي الشنقيطي في نظمه للمغازي إلى غزوة ذات قرد بقوله‏:‏ فغزوة الغابة وهي ذو قرد خرج في إثر لقاحه وجد

وناشها سلمة بن الأكوع وهو يقول اليوم يوم الرضع

وفرض الهادي له سهمين لسبقه الخيل على الرجلين

واستنقذوا من ابن حصن عشرا وقسم النبيّ فيهم جزرا

وقد جزم البخاري في ‏"‏ صحيحه ‏"‏ بأن غزوة ذات قرد قبل خيبر بثلاثة ليال،

وأخرج نحو ذلك مسلم في ‏"‏ صحيحه ‏"‏ عن إياس بن سلمة بن الأكوع عن أبيه قال‏:‏ فرجعنا من الغزوة إلى المدينة، فواللَّه ما لبثنا بالمدينة إلا ثلاث ليال حتى خرجنا إلى خيبر، فما في الصحيح أثبت مما يذكره أهل السير مما يخالف ذلك، كقول ابن سعد‏:‏ إنها كانت في ربيع الأول سنة ستّ قبل الحديبية، وكقول ابن إسحاق‏:‏ إنها كانت في شعبان من سنة ستّ بعد غزوة لحيان بأيام‏.‏

ومال ابن حجر في ‏(‏فتح الباري‏)‏ إلى الجمع بين ما في الحديث الصحيح وبين ما ذكره أهل السير بتكرر الخروج إلى ذي قرد، وقرد بفتحتين في رواية الحديث وأهل اللغة يذكرون أنه بضم ففتح أو بضمتين، وقد وردت صلاة الخوف على كيفيات أُخر غير ما ذكرنا‏.‏

قال ابن القصار المالكي‏:‏ إن النبيّ صلى الله عليه وسلم صلاّها في عشرة مواضع‏.‏

وقال ابن العربي المالكي‏:‏ روي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه صلّى صلاة الخوف أربعًا وعشرين مرة‏.‏

قال مقيده عفا اللَّه عنه‏:‏ الذي يظهر واللَّه تعالى أعلم، أن أفضل الكيفيات الثابتة عنه صلى الله عليه وسلم في صلاة الخوف، ما كان أبلغ في الاحتياط للصلاة والتحفظ من العدوّ‏.‏